سؤالي قصير ، وهو أنني أحبُّ أن أدخل الجنَّة .. أحبُّ أن أجاهد نفسي ،
أحبُّ أن أقبِّل يد أمي كلَّ يوم ، أحبُّ أن أبعد عن الهوى والشيطان ،
أحبُّ أن يلقِّبني الله يوم القيامة بالعبد الرباني إن شاء الله ، أحبُّ
أن أحبَّ إخواني ، أحبُّ أن يستمرَّ إيماني في الارتفاع . ماذا أفعل ؟ .
الجواب:
الحمد لله
نسأل الله أن يثبِّتك على الحقِّ دائمًا ، وأن يحقِّق مرادك ، وأن يجعلك
من الأوَّابين العارفين بالحقِّ والمدافعين عنه والمتمسكين بالدين .
إنَّ التساؤلات التي طرحتها في استشارتك تدلُّ على فطرةٍ سويَّةٍ ونقيَّة
، ورغبةٍ كبيرةٍ في الوصول إلى المعالي وإعطاء كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، وهذه
أماني عظيمة تتحقَّق بالإيمان ، وكما ورد عن سفيان الثوري قوله : " ليس
الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل"،
ومن هنا سوف نعرج معك أخي على قضيَّة الإيمان ، وأهمِّيَّتها في الوصول
إلى الربَّانيَّة ، وتحقيق رضى وبرِّ الوالدين والفوز بالجنَّة .
* من طلب العلا سهر الليالي، ولله درُّ الشاعر إذ يقول :
طوبى لمن سهرت بالليل عيناه……. وبات في قلقٍ في حبِّ مولاه
وقام يرعى نجوم الليل منفـردًا……. شوقًا إليه وعين الله ترعـاه
ولذلك يقول الفضيل : "حرامٌ على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا
في الدنيا"، وقال أيضًا : " إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار
فاعلم أنَّك محروم".
فالمؤمن الصادق يحمل قلبًا كالجمرة الملتهبة ، ولذلك روى الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه بسندٍ صحيحٍ عن النبيِّ
: ( إنَّ الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، اسألوا الله أن
يجدِّد الإيمان في قلوبكم ) ، يعنى أنَّ الإيمان يبلى في القلب كما يبلى
الثوب .
وتعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان سحابةٌ من سحب المعصية، وهذه الصورة صوَّرها لنا الرسول
في قوله : ( ما من القلوب قلبٌ إلا وله سحابةٌ كسحابة القمر ، إذا علته
سحابةٌ أظلم وإذا تجلَّت عنه أضاء ) رواه الطبرانيّ في الأوسط وصححه
الألباني ، كذلك قلب المؤمن تعتريه أحيانًا سحبٌ مظلمةٌ فتحجب نوره فيبقى
في ظلمةٍ ووحشةٍ ، فإذا سعى لزيادة رصيده الإيماني واستعان بالله انقشعت
تلك السحب وعاد نور قلبه يضيء ، ولذا يقول بعض السلف : " من فقه العبد أن
يعاهد إيمانه وما ينتقص منه " ومن فقه العبد أيضًا : " أن يعلم نزغات
الشيطان أنَّى تأتيه ".
فلابدَّ من العودة إلى الإيمان، فإذا عدت إلى الإيمان ومقتضياته سيتحقَّق
لك ما تريد ، ولذا سأضع أمامك قاعدةً تستدلُّ بها على وجود الإيمان أو
عدمه ، يقول الإمام ابن الجوزي : "يا مطرودًا عن الباب ، يا محرومًا من
لقاء الأحباب ، إذا أردت أن تعرف قدرك عند الملك ، فانظر فيما يستخدمك ،
وبأيِّ الأعمال يشغلك ، كم عند باب الملك من واقفٍ ، لكن لا يدخل إلا من
عني به ، ما كلّ قلبٍ يصلح للقرب ، ولا كلّ صدرٍ يحمل الحبّ ، ما كلّ نسيم
يشبه نسيم السحر ".
فإذا أراد المرء أن يعرف أين هو من الله ، وأين هو من أوامره ونواهيه ،
فلينظر إلى حاله وما هو مشغول به ، فإذا كان مشغولاً بالدعوة وأمورها ،
وفى إنقاذ الخلق من النار، والعمل من أجل الفوز بالجنَّة ومساعدة الضعيف
والمحتاج ، وبرِّ الوالدين ، فليبشر بقرب منزلته من ملك الملوك ، فإن الله
لا يوفِّق للخير إلا من يحبّ.
وإذا كان منصرفًا عن الدعوة ، مبغضًا للدعاة ، بعيدًا عن فعل الخيرات ،
منشغلاً بالدنيا وتحصيلها ، والقيل والقال وكثرة السؤال ، مع قلَّة العمل
، أو متَّبعًا لهواه وشهواته ، فليعلم أنَّه بعيدٌ من الله ، وقد حُرِم
ممَّا يقرِّبه من الجنَّة ، إذ يقول الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم : (
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمَّ جعلنا له جهنَّم
يصلاها مذمومًا مدحورًا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ
فأولئك كان سعيهم مشكوراً ).
أخي ...
إن أردت أن تحظى بمرتبةٍ متقدِّمةٍ في كلِّ أوجه الخير ، بما فيها أن تكون
عبدًا ربَّانيّا وبارّا بوالديك ، ومبتغيًا الجنَّة ، فعليك بالآتي :
أوَّلاً :
عليك بإحياء وإيقاظ الإيمان داخل نفسك ، فالإيمان هو الموصلٌ لكلِّ ما
ينشده المسلم في الدنيا والآخرة ، فالإيمان هو مفتاحٌ لكلِّ خيرٍ مغلاقٌ
لكلِّ شرّ ، ووسائل بعث الإيمان وتمكينه في النفس كثيرةٌ ومتعدِّدة ،
ومنها الإكثار من الطاعات والأعمال الصالحات .
ثانياً :
أن تقبل على مولاك إقبالاً صادقًا كما جاء في الأثر : " إذا أقبل عليَّ عبدي بقلبه وقالبه أقبلت عليه بقلوب عبادي مودَّةً ورحمة " .
وأن تجعل الله عزَّ وجلَّ الغاية الأسمى والهدف الأعلى : ( وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون ).
ثالثاً :
أن تتطلَّع دائمًا إلى الدرجات العلا، وأن تجعل هدفك في الحياة هو رضى
الله عزَّ وجلّ ، والعمل من أجل الفوز بالجنَّة ، أو بالأحرى الفوز
بالفردوس الأعلى ، وأن تعمل ما استطعت جاهدًا على تحقيق هذه الأهداف
السامية .
رابعاً :
أن تتأسَّى بأصحاب القدوة في التاريخ الإسلامي من الصحابة والتابعين والسلف الصالح .
خامساً :
أن تغتنم كلَّ دقيقةٍ وكلَّ لحظةٍ وكلَّ خلجة قلبٍ في أن تجعلها خزانةً في رصيدك الإيماني .
سادساً :
الصحبة الصالحة ، قال رسول الله
: ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) رواه أبو داود والترمذيّ
بسندٍ حسن ، فالصحبة الطيِّبة هي خير معينٍ على الطاعة وهجران المعاصي
والشرور والوقوع في الخطايا .
سابعاً :
كثرة الفضائل من الأعمال الصالحات التي تحقِّق لك سعادة العاجل والآجل.
ثامناً :
قيام الليل والدعاء في وقت السحر ، فالرسول
كانت تتورم قدماه رغبةً في أن يكون عبدًا شكوراً ، رغم أنَّ الله قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
تاسعاً :
المداومة على الورد القرآني ، وأوراد التفكُّر والتأمُّل والتدبُّر في أسرار القرآن .
عاشراً :
الحرص على نشر الدعوة في سبيل الله ، والعمل للدين على قدر الاستطاعة .
وإذا أردت أن تصل إلى الربانية التي تطمح لها فكن كما أمر الله عز وجل نبيه
: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) فالربانية هي
الانتساب للرب ، وهذا الانتساب لا يتحقق إلا من خلال تطبيقنا لهذه الآية ،
أن نكون لله رب العالمين في كل أحوالنا .
فالربانية لا تتأتى مكتملة إلا بهذا ، لا تتأتى إلا بعبادة الله عز وجل
بالمفهوم الشامل للعبادة ، وهو جعل الحياة والممات ، بل الحركات والسكنات
له سبحانه ، فلا ننطق إلا بما يرضي الله، ولا نعمل إلا ما يرضاه الله ،
ولا تتوجه نياتنا في تلك الأقوال والأفعال إلا لله ، لا أن نختزل العبادة
في مجرد أن نرفع رءوسنا ونخفضها في أوقات معينة ومحددة ، أو نخرج دريهمات
قليلة كل مدة من الزمن ، أو نصوم أيامًا معدودات كل عام ، أو نحرك ألسنتنا
ببعض التمتمات والأذكار .
ولهذا فالأعمال التي تؤدي إلى هذه المرتبة – الربانية – أكثر من أن تُحصَى
أو تعد ، وهي تتشعب بتشعب مجالات حياتنا وأماكن وجودنا ، وذلك من فضل الله
علينا وعلى الناس .
فقط ابحث في كل مكان تتواجد فيه ، وفي كل لحظة تمر عليك ، عما يرضيه عز
وجل ، وعما تظن أنه يريد أن يراك عليه واعمل به ، تكن بذلك ربانياً .
وختاما نسأل الله أن يتقبل منا ومنك صالح العمل ، وأن يحشرنا وإياك في
مستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسًن أولئك
رفيقاً .